البحث عن ثقافة قصور الثقافة


مدحت بشاي:
في حياة كل منا أيام لا تنسى ، يمكن أن نطلق عليها بالفعل ( أيام لها تاريخ ) كما عرفها كاتبنا الكبير الراحل " أحمد بهاء الدين " في كتابه الشهير بذات العنوان ، لارتباطها بأحداث أو مواقف وطنية وتاريخية أو حتى شخصية هامة كانت تمثل مراحل تحول أو تغيير مفصلية لدينا ، لتترك في ذاكرتنا مجموعة مشاهد نستدعيها من آن إلى أخر لأسباب تتنوع مقاصدها وفق أهمية و دلالة الحدث ، فقد يكون للتدليل على صواب مواقفنا أو للاعتذار عن خطأ تقديراتنا ، أو للسرد والحكي لأجيال لم تعش دراما الحدث ، أو لأسباب أخرى عديدة لا يتسع المجال للإشارة إليها ..
عقب إعلان الرئيس "عبد الناصر " قرار تنحيه عن كرسي الحكم بعد نكسة يونيو 1967 عبر خطابه الشهير ، وفي مدينة كفر الشيخ ــ على سبيل المثال ــ تحرك على الفور كاهن الكنيسة ومعه إمام وخطيب الجامع الأقرب إليه مُتجهين إلى قصر ثقافة المدينة لدعوة الجماهير للاحتشاد رفضًا لقرار التنحي ، ولم يكن الأمر في حاجة لتوجيه الجماهير فقد حزم الجميع الأمر على الانطلاق بسرعة إلى القاهرة ليؤكدوا رفض أبناء تلك المحافظة للقرار في مظاهرات غاضبة تعلن اعتزامها تكملة المشوار مع الزعيم ..
وعليه ، تحول قصر الثقافة هناك منذ اليوم التالي إلى بيت طيب و رحب لمواطنيه ورواده ، ومركز ثقافي وفني وطني لدعم إعلان موقف سياسي موحد للعمل على إزالة آثار العدوان ( وفق التعبير والشعار المرفوع آنئذ ) وحشد كل الطاقات لتحفيز الناس كل في موقعه للاستعداد لخوض معركة تحرير الأرض ..
وأذكر ، كيف تحلقت الجماهير داخل القصر حول الشاعر والرسام الكبير " صلاح جاهين " في اليوم التالي في احتفالية رائعة مع عزف على العود للموسيقار الجميل " سليمان جميل " ، غنى جاهين للناس ومع الناس معظم الإغاني الوطنية المعروفة في تلك الفترة وردد الأشعار بالمناسبة ، ولم نره مُحبطًا متخاذلًا بعد النكسة بالصورة التي أشاعها البعض عنه و مازالوا يحدثوننا عن معاناته من حالة الانكسار والاكتئاب بعد النكسة ، وهو الذي أصر أن يشاركه الجميع الغناء والرقص بإصرار الواثق بانتصار شعبه وتجاوز تلك النكسة ، ومع بزوغ فجر اليوم التالي أصر كل الحضور مرافقة " جاهين " و "جميل " حتى محطة القطار وتوديعهما بعد ليلة لن أنساها ما حييت في حب الوطن..
أتذكر تلك الأحداث و قد مر أكثر من 60 سنة على إنشاء وزارة الثقافة ، وللأسف بتنا نبحث عن تلك الحياة الثقافية في مؤسسات الثقافة الجماهيرية ، فلا ينبض فيها بالحياة سوى القليل ، و يعاني رواد وأهل مناطق تلك المؤسسات من حالة عطش ثقافي وفني وترويحي ومعرفي ، وقد تراجع عن توفيرها ذلك الكائن الضخم المتمدد شكلًا وعلى أوراق تلك الوزارة دون وجود حقيقي ومؤثر على أحوال البلاد والعباد .. لا سينما ولا مسرح و لا فرق شبابية للفنون الشعبية والتراثية ، وعليه كان من الطبيعي أن يملأ ذلك الفراغ الموحش أصحاب الخطابات السلبية الكريهة المتراجعة حضاريًا وإنسانيًا وروحيًا ومعهم كل عوامل الجذب والتأثير الرذيل لحجب أي فرص للتنوير والانطلاق لسماوات الإبداع الجميل ..
في لقاء سريع مع الكاتب المبدع علي سالم ، قال لي عندما علم أني من سكان كفر الشيخ في الستينات والسبعينات ، أنه قد سعد بتقديم فرقة ثقافة كفر الشيخ مسرحيته " الناس اللي في السما الثامنة " لأنهم التزموا النص ، و أنه من حسن حظه لم يكن المسرح عندهم جاهزا للعرض فقدموه فوق سطح أحد النوادي هناك وهو ما ساعد العرض علي أن يكون في مكانه الطبيعي وهو السماء ، و أخرج العرض الرائع " حسين جمعة " ، و يضيف " سالم " أنه لم يكن يعرفني كما لم أكن أعرفه لذلك لم تكن هناك فرصة ليمارس أحدنا عُقده علي الآخر، ولكن لابد من الحديث هنا عن محافظ كفر الشيخ في ذلك الوقت ، وهو اللواء جمال حماد، أديب ومؤرخ ورجل دولة من الطراز الأول. لقد تعامل مع أعضاء الفرقة كمحترفين ووفر لهم كل الإمكانيات اللازمة لنجاح العرض كما استضاف في حفل الافتتاح عددا كبيرا من الكتاب والنقاد والصحفيين. لقد كان يري أن الإبداع الفني في المحافظة جزء من عمله ومهمته كمحافظ..." .. وإلى هنا انتهى كلام " علي سالم " ، وهو ما يشير إلى روعة المناخ العام السائد أنئذ لممارسة العمل الثقافي والفني ، وحالة توهج مؤسسات الوزارة وألق إبداعاتها في تلك الفترة ..
ثم كان تقديم مسرحية " الزوبعة " للرائع " محمود دياب " على مسرح ثقافة كفر الشيخ عام 1966 ، وحاز عليها جائزة منظمة اليونيسكو لأحسن كاتب مسرحى عربى. وترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية. ومسرحية (الغريب) ذات الفصل الواحد وقدمها المسرح القومى المصري ..
حول بداية نشأة فكرة العمل الثقافي الجماهيري ، يذكر الكاتب د. مجدي يوسف أنه فى خضم المد الشعبى الوطنى أثناء الأربعينيات كان إنشاء الجامعة الشعبية عام 1945 فى مقابل المدارس الرسمية التى خطط لها الاستعمار الانجليزى كى تولد طبقة من الموظفين لإدارة شئون البلاد . فعلى العكس من تلك المدارس كنا نذهب للجامعة الشعبية فى شبابنا الباكر بلا طرابيش. وهناك فى مقتبل الخمسينيات تعلمت مبادئ الإيطالية والألمانية ، ولم أكن حالة خاصة، وإنما كان هذا التعطش للمعرفة والإقبال عليها هو سمة ذلك الجيل بوجه عام. وكان يعلم الألمانية هناك الأستاذ محمود بسيوني، صديق توفيق الحكيم ، حيث كان الوحيد الذى تفرش له منضدته بالجوخ الأخضر ، بينما سائر المدرسين، وبعضهم من الأجانب المقيمين فى مصر، يرتضون بمجرد منضدة عارية . وقد استمر نشاط تلك الجامعة الشعبية بعد حركة الضباط الأحرار ، بينما تحول اسمها فى 1965 إلى "الثقافة الجماهيرية" تعبيرا عن تلاحمها مع التثقيف الشعبى العام فى مختلف مجالات الفكروالفن والحياة . لكنها ما لبثت أن أصبحت بعد ذلك حسب القرار رقم 63 تابعة لوزارة الثقافة ، بوصفها الجهة الراعية ، وليغير اسمها لتصبح "الهيئة العامة لقصور الثقافة".
في انتظار تفاعل الوزيرة العازفة لتشدو لنا بلحن إعادة الروح للجسد المنهك المتعب لوزارة مضى على وجودها 60أكثر من سنة ، وباتت في حاجة ماسة لفرسان جدد يمنحون أجهزتها قبلة الحياة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق