مدحت بشاى يكتب:
«الشعب الجالس فى الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور. أكْثَرْتَ الأُمَّة، عَظَّمْتَ لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح فى الحصاد، كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة لأنه يُولَد لنا ولد، ونُعْطَى ابنًا، وتكون الرياسة على كَتِفِهِ، ويُدعى اسمه: عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسى داوود وعلى مملكته ليثبِّتها ويَعْضُدَها بالحق والبرِّ من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا».. هكذا حدثتنا آيات العهد القديم لتصف وتحكى تفاصيل مشهد الميلاد المفرح قبل قدوم المولود العظيم بأزمان كثيرة.
لقد كان ميلاد المسيح فى حقيقته الإلهية هو مفتاح قراءة شخص المسيح وأعماله وكل أقواله.
تقول الآية: «فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِى الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِى الْمَنْزِلِ».. وهنا يتناول الأب متى المسكين التعقيب على المشهد قائلًا: قلبى على هذه الأم الوحيدة، كيف احتملت المخاض وحدها؟ كيف استقبلت الطفل بيديها؟ كيف قمَّطته وهى منهوكة القوى؟ ماذا شربت وماذا أكلت؟ اشهَدْنَ يا نساء العالمين على أُم المُخلِّص، كم عانت؟ وكم تستحق التمجيد؟ عزائى الوحيد أن الرحلة الشاقة ذات الأيام الأربعة والتسعين ميلًا سهَّلت الوضع بحسب خبرة أصحاب التوليد وأهَّلتها لمعونة ملائكية، وأُخفيت عن الإنجيل ليزداد عطفنا عليها وحبُّنا لها.
وهكذا استقبل العالم «المسيَّا» الموعود رجاء كل الدهور «نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ» فى مذود للبهائم. ويبدو أن فى هذا تعييرًا شديدًا لإسرائيل، كون المسيح قد استأمن البهائم على حياته ولم يستأمن بيت يعقوب: «اسْمَعِى أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِى أَيَّتُهَا الأَرْضُ، رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ، أَمَّا هُمْ فَعَصَوْا عَلَىَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِى لاَ يَفْهَمُ».
«فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا، فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ»، وهنا يسأل الأب متى المسكين: أليس هذا هو الإنجيل، أى البشارة المفرحة جدًا؟ أول مَنْ فسَّره ملاك، وأول مَنْ سمعته آذان رعاة! واللغز هنا بديع، فالبشارة للرعاة، والفرح للشعب، وما على الرعاة إلا البلاغ. وكأنه فى مخافة عظيمة جدًا يتقبَّل الرعاة البشارة لينقلوها مفرِحة لجميع الشعب. وهكذا فأول مَنْ سمع البشارة ورأى المولود هم الرعاة، إن فى هذا تناسقًا بديعًا.
ويستطرد «المسكين»: لكن نقطة التركيز فى هذه الآية أن البشارة بالميلاد فيها فرح عظيم، وكم مرَّة عيَّدنا للبشارة ولم نفرح؟ بل كم مرة قرأنا وسمعنا البشارة ولم نفرح؟ إن فى هذا إشارة إلى عطل فى السمع والفكر فى تقبُّلنا لأعمال الله وأسراره، لنا آذان لا تسمع!
إن الفرح العظيم الذى يكون لجميع الشعب انطلق من الميلاد ليؤسِّس دعامة فى قلب الإنسان لا يمحوها الزمن، ارتفعت عاليًا يوم القيامة لتُنهى عهد شقاء الإنسان إلى الأبد «أُبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب كل الأيام».