أشرف جرجس يكتب :
في يوم ميلادك ماتت أمك، وجائت الملائكة لتأخذها إلى مواضع النياح، وفيما روحها صاعدة، أوقفتها امرأة غاية في الجمال والبهاء، وقالت للأم بحب واعجاب "طوبى للبطن التي حملته، طفلك صار لي أبا وراعي، سوف تزين تعاليمه هامتي، سأتفاخر بين الأمم بكلماته، ستصل عظاته إلى أقصى الأرض، طوباها البطن التي حملته".
أكملت الأم مسيرتها نحو الفردوس في دهشة، وراحت تسأل الملائكة "من هذه المرأة البهية"، فقالوا لها "هي الكنيسة القبطية، أم الكنائس وراعية الأمانة المستقيمة، إنها فخر الجمال وكمال التعليم، طوباهم من خرجوا من رحمها، فإن السماء هي ميراثهم".
صرخ الطفل الرضيع من الجوع، وراحت العيون حوله تنظر إلى الطفل المتيتم في حزن وشفقة، وبينهم في اللا منظور وقفت صفوف من الملائكة تهدهد الطفل وتداعبه، وتمسح بأجنحتها على بطنه لتهديء ألام معدته الغضة، وراحوا يتسامرون عنه قائلين "هذا الجائع للبن كطفل فقير سوف تستضيء المسكونة من تعاليمه، وستتهذب نفوس الجهال بحكمة عظاته، وستبلغ أقدام الضالين ميناء الخلاص بإرشاده، وستهتدي النفوس بنور فضائله، طوباهم من سيتتلمذون على صوته العذب المريح، هو سيصرف أموال الكنائس ببذخ على إخوه الرب، ستباركه البطون الشبعانة والأبدان المستورة، ما أكثر فرحهم الذين سيسهرون على دراسة مؤلفاته، وويل لأولئك الشاردون عن ارشاداته".
وفيما هم يتسامرون، تقدم نحو المشهد رجل عجوز، كثيف الشعر، شائب الرأس، مهيب الطلعة، تقدم نحو مهد الرضيع، وتفرس فيه برهة، ثم سجد بهامته نحو الأرض بحماس لا يتناسب مع شيخوخته، وتمتم قائلا "أنا التاريخ أنحني للحظة ميلادك، احتراما لمساراتي التي ستتغير جذريا بوجودك في جنباتي، لن أقدر أن أخضعك لتلافيفي ومؤامراتي كأغلب البشر، بل أنت ستعيد ترتيب أوراقي، وتعدل بوصلتي، وتسطر أفعالك بمداد من ماس على صفحات من ذهب، أنت ستعطي قيمة أخرى لي، كياني سيتجدد بأفعالك، ليتك تقبل تقديري لتواجدك فوق صفحاتي، يا معلم المسكونة".
راح الطفل في غفوة هادئة، وتسللت الراحة والشبع إلى أوصاله، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامه رائقة عذبة بريئة، استجابة للمسات ساحرة راحت تداعبه بها ملائكة النور والرحمة.
فتحت روح الصبي عيون أحاسيسها من أعماق النوم، فأمامها ظهر نور لا يدنى منه، وفي جنبات الفضاء ترددت صدى كلمات عجيبة كخرير مياه كثيرة "أكسيوس شينوتي بي ماه شومت إن أرشي إريفس"، وردت جوقة الملائكة وراء الصوت قائلة بكل انسجام وموسيقى "أكسيوس أكسيوس أكسيوس".
راح جسد الصبي في عمق الغفوه، غارقا في لذة من راحة سمائة طغت على آلام المعدة الفارغة، وشعر الطفل بشبع غريب، لا يدانيه إلا شبع موسى النبي عندما عاين مجد الله على الجبل أربعين يوما بلا زاد، وحول الصبي بدأت في التكون دائرة من أرواح الصديقين والأبرار والشهداء، وراحت الدائرة تتسع وتتمدد، وتزيد الأعداد بغزارة، ومد كل منهم يمينه نحو البؤرة التي يغفو فيها جسد الصبي، وقالوا في صوت واحد "الفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا 12 : 3).
اختفت الدائرة المؤلفة من أرواح القديسين، وراحت تتكون بدلا منها دائرة أخرى، من أرواح رهبان البراري ولباس الصليب، والعباد والنساك والمتوحدين، تزين هاماتهم قلنسوة أنطونيوس، خوذة الخلاص ذات الإثنى عشر صليبا، كل الرهبان والراهبات القديسين المنتقلين للفردوس، منذ الأنبا أنطونيوس وحتى القرن العشرين، وراحوا يترنمون في أذن الصبي قائلين بعذوبة "أنطونيوس السرياني، فخر الرهبان، كوكب آخر كأبينا البار أنطونيوس، نجما آخر كمكاريوس وباخوميوس وشنودة رئيس المتوحدين، عمودا عظيما في البرية، في رعويتك البهية ستتسع الأديرة وتعمر بالرهبان، سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون في براري مصر، ستمتليء بهم البرية كأبراج الحمام، انحل من الكل وارتبط بالواحد، وليكن الرب غذائك وشبعك وعزائك".
اختفت الدائرة المؤلفة من أرواح الرهبان، وراحت تتكون بدلا منها دائرة أخرى، من أرواح البطاركة القديسين الذين خدموا الكنيسة الجامعة بطهارة وبر، الذين حفظوا الوديعة وحاربوا فيها المحاربة الحسنة، وعلى رأسهم بطاركة الكنيسة القبطية الذين رقدوا وتنيحوا في الإيمان بالمسيح، مرقس وانيانوس، أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس، وراحوا يترنمون في أذن الصبي قائلين بعذوبة "شنودة الثالث، بابا وبطريرك ورئيس المدينة العظمى الإسكندرية، وسائر الكرازة المرقسية، اجلس باستحقاق على العرش التليد، تسلم عصا الرعاية من مرقس الرسول ناظر الإله، وليكن بنوك ألوف وربوات، وليرث تلاميذك باب مبغضيهم، ولتتسع الكنيسة في عهدك لتشمل كل المسكونة".
بدأت أرواح البطاركة في الاختفاء رويدا رويدا، وبدأ الطفل يستيقظ من سباته، وراح ينظر لمن حوله في سعادة وراحة، ولم يفهم أهله ما سر هدوء البطن الصغيرة الجائعة..